يقول كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه:
خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليهوسلم لها، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حَرَام أبو جابر، سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، أخذناه معنا ـ وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا ـ فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدًا. ثم دعوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد رسول اللهصلى الله عليه وسلم إيانا العقبة، قال: فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيبًا.
قال كعب: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتسلل تسلل القَطَا، مستخفين، حتى اجتمعنا في الشِّعْب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلًا، وامرأتان من نسائنا؛ نُسَيْبَة بنت كعب ـ أم عُمَارة ـ من بني مازن بن النجار،وأسماء بنت عمرو ـ أم منيع ـ من بني سلمة.
فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا، ومعه عمه: العباس بن عبد المطلب ـ وهو يومئذ على دين قومه ـ إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، ويتوثق له، وكان أول متكلم.
وبعد أن تكامل المجلس بدأت المحادثات لإبرام التحالف الدينى والعسكرى، وكان أول المتكلمين هو العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، تكلم ليشرح لهم ـ بكل صراحة ـ خطورة المسئولية التي ستلقى على كواهلهم نتيجة هذا التحالف. قال:
يا معشر الخزرج ـ وكان العرب يسمون الأنصار خزرجـًا، خزرجـها وأوسـها كليهما ـ إن محمدًا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه،فهو في عز من قومه ومنعة في بلده. وإنه قد أبي إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك. وإن كنتم ترون أنكم مُسْلِمُوه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه. فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده.
قال كعب: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله ، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.
وهذا الجواب يدل على ما كانوا عليه من عزم صميم، وشجاعة مؤمنة، وإخلاص كامل في تحمل هذه المسئولية العظيمة، وتحمل عواقبها الخطيرة.
وألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بيانه، ثم تمت البيعة.
بنود البيعة
وقد روى ذلك الإمام أحمد عن جابر مفصلًا. قال جابر: قلنا: يا رسول الله ، علام نبايعك؟ قال:
[على السمع والطاعة في النشاط والكسل.
وعلى النفقة في العسر واليسر.
وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وعلى أن تقوموا في الله ، لا تأخذكم في الله لومة لائم.
وعلى أن تنصرونى إذا قدمت إليكم، وتمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة].
وفي رواية كعب ـ التي رواها ابن إسحاق ـ البند الأخير فقط من هذه البنود، ففيه: قال كعب: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا القرآن، ودعا إلى الله ، ورغب في الإسلام، ثم قال: [أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نسائكم وأبناءكم]. فأخذ البراء ابن مَعْرُور بيده ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق نبيًا، لنمنعنك مما نمنع أُزُرَنا منه، فبايعنا يا رسول الله ، فنحن والله أبناء الحرب وأهل الْحَلْقَة، ورثناها كابرًا عن كابر.
قال: فاعترض القول ـ والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أبو الهيثم بن التَّيَّهَان، فقال: يا رسول الله ، إن بيننا وبين الرجال حبالًا، وإنا قاطعوها ـ يعنى اليهود ـ فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله إن ترجع إلى قومك وتدعنا؟
قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: [بل الدَّمُ الدَّمُ، والهَدْمُ الْهَدْمُ، أنا منكم وأنتم منى، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم].
وبعد أن تمت المحادثة حول شروط البيعة، وأجمعوا على الـشروع في عقدها قام رجلان من الرعيل الأول ممن أسلموا في مواسم سنتى 11 و 12 من النبوة، قام أحدهما تلو الآخر؛ ليؤكدا للقوم خطورة المسئولية، حتى لا يبايعوه إلا على جلية من الأمر، وليعرفا مدى استعداد القوم للتضحية، ويتأكدا من ذلك.
قال ابن إسحاق: لما اجتمعوا للبيعة قال العباس بن عبادة بن نَضْلَة: هل تدورن علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس. فإن كنتم ترون أنكم إذا نَهََكَتْ أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلا أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزى الدنيا والآخرة. وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نَهْكَة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخـرة.
قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟ قال: [الجنة]. قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه.
وفي رواية جابر [قال]: فقمنا نبايعه،فأخذ بيده أسعد بن زرارة ـ وهو أصغر السبعين ـ فقال: رويدا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه، وأجركم على الله ، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر لكم عند الله .
وبعد إقرار بنود البيعة، وبعد هذا التأكيد والتأكد بدأ عقد البيعة بالمصافحة، قال جابر ـ بعد أن حكى قول أسعد بن زرارة ـ قال: فقالوا: يا أسعد، أمِطْ عنا يدك. فوالله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقيلها.
وحينئذ عرف أسعد مدى استعداد القوم للتضحية في هذا السبيل وتأكد منه ـ وكان هو الداعية الكبير مع مصعب بن عمير ـ فكان هو السابق إلى هذه البيعة. قال ابن إسحاق: فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يده. وبعد ذلك بدأت البيعة العامة، قال جابر: فقمنا إليه رجلًا رجلًا فأخذ علينا البيعة، يعطينا بذلك الجنة.
وأما بيعة المرأتين اللتين شهدتا الوقعة فكانت قولًا. ما صافح رسول الله صلى اللهعليه وسلم امرأة أجنبية قط.