لم تكن انتفاضة الأقصى بدعاً في مضمار الثورات وهبات التحرير
الوطني التي سقط فيها الشهداء مدراراً، وامتدت فيها يد الاغتيال والإجرام الحاقدة
لتنال من مسيرتهم المشرقة، وتضع حدّاً لحياتهم الحافلة بأنصع أشكال المقاومة وأروع
معاني البذل والعطاء والتضحية والشموخ.
ولم تكن انتفاضة الأقصى -أيضاً- حلقة منفصلة
عن سلسلة جهاد الشعب الفلسطيني وانتفاضاته الباسلة المتعاقبة التي لم تنفكّ
اشتعالاً مذ بدأت المخططات الصهيونية تتوالى تترى استهدافاً لفلسطين، والمغتصبون
الصهاينة يلتهمون تباعاً الأرض الفلسطينية ويحيلونها الى مستوطنات وبؤر سكنية خاصة
مطلع القرن الماضي، والتي شهدت -آنذاك- ألواناً من القتل والاغتيالات والإعدامات
للعناصر المجاهدة والوطنية المخلصة التي تولى كبرها الاستعمار البريطاني الذي رعى
الصهاينة وبارك مخططاتهم وسعى في تمددهم وانتشارهم وسهر على إنشاء وتأسيس دولتهم
اللقيطة وكيانهم الهزيل، مروراً بجرائم العصابات الصهيونية التي سبقت وأعقبت
الإعلان عن دولتهم المزعومة عام 1948م، وعمليات الاغتيال التي استهدفت قادة ورموز
وعناصر الثورة الفلسطينية في عقد السبعينات ومطلع الثمانينات، وصولاً الى حقبة
الانتفاضة المباركة الأولى وما أعقبها من توقيع اتفاقات أوسلو التي شهدت اغتيال الكثير
من المجاهدين والمناضلين.
ومع ذلك، فإن انتفاضة الأقصى قد اكتسبت سمتاً
مميزاً انفردت به عن سائر الانتفاضات ومراحل الجهاد والمقاومة الماضية في مضمار
الاغتيالات التي استهدفت قادة ورموز وكوادر الشعب الفلسطيني وفصائله المقاومة,
فللمرة الأولى تتحول سياسة الاغتيالات الصهيونية إلى سياسة شاملة ذات أبعاد جنونية
تشغل حيزاً كبيراً في الفهم والتخطيط والإدارة والتنفيذ ضمن أروقة الحكومة
الصهيونية ودوائر استخباراتها وجيشها الغاشم، وتستباح فيها السماء الفلسطينية
بالطائرات الصهيونية التي استخدمت بكثافة لتنفيذ الاغتيالات، وتتحول فيها المدن
والقرى والمخيمات الفلسطينية إلى مرتع لدبابات وآليات وحملات الاحتلال العسكرية
التي أشبعتها مداهمة وتوغلاً وحصاراً واجتياحاً لاصطياد عناصر وكوادر المقاومة.
وللمرة الأولى في تاريخ جهاد الشعب الفلسطيني
تستخدم الطائرات المقاتلة من طراز "إف16" في اغتيال القادة المجاهدين
لحركة حماس داخل منازلهم ووسط الأحياء السكنية المكتظة، كما في اغتيال الشهيد صلاح
شحادة، ومحاولات اغتيال الشيخ أحمد ياسين وإسماعيل هنية، والدكتور محمود الزهار،
والدكتور عبد العزيز الرنتيسي, والمحاولة الثانية لاغتيال الشهيد محمود أبو هنود،
بما يعنيه ذلك من تجاوز لكافة الخطوط
الحمراء وقواعد اللعبة، وبلوغ الصهاينة ذروة الارهاب وقمة الاستهداف بعيداً عن أية
اعتبارات أو قيود سياسية أو ميدانية أو انسانية.
ومما
لاشك فيه فإن استعراض أسماء قادة وكوادر وعناصر المقاومة الذين استهدفتهم جرائم الاغتيال
الصهيونية، وطبيعة دورهم في مواجهة الاحتلال، يكشف بجلاء عن حقيقة الجهود العظيمة
التي بذلوها خدمة لقضيتهم الوطنية، والآثار البالغة التي تركوها على كيان
الاحتلال، والأخطار الكبيرة التي شكلوها على الدولة المسخ التي تبجحت - دهراً-
بأنها لا تقهر، وباتت معها دولة الاحتلال نمراً من ورق ووحشاً بلا أنياب، تلاحقها
الأزمات والانتكاسات في مختلف المجالات، والتي توّجت بإعلان شارون نيته إخلاء معظم
مستوطنات قطاع غزة نهاية العام الجاري.
إن النتيجة المباشرة والخلاصة الأهم التي
تكشفت، لكل ذي عينين، أن جرائم الاغتيال الحاقدة، على تفاوتها واختلاف أشكالها
وآثارها وتداعياتها، لم تفلح في تحقيق الأهداف المتوخاة منها التي يتصدرها كسر
ارادة الشعب الفلسطيني، وإخماد نيران انتفاضته المباركة ومقاومته المتصاعدة
وإجباره على الاستسلام والرضوخ لإملاءات الأمر الواقع، وتفريغ الساحة الفلسطينية
من قادتها الأفذاذ ورموزها الأبطال الذين رفعوا هامات شعبنا الفلسطيني عالياً
وجرعوا الصهاينة كأس المذلة والمنون.